سؤال من خلق الله؟
المقالة هي تفريغ للفيديو أعلاه. الحقوق لصاحب الفيديو وكل الشكر له.
كنت في صغري، وأنا مستلقٍ على سريري قبل النوم، أتساءل: أليس لكل شيء خالق؟ فمن خلق الله؟ ثم شعرت بأن هذا السؤال محرم ولا يخطر ببال أحد من حولي. كبرت، وعرفت أن هذا السؤال يتساءله الكثيرون، بل وعرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على أن كثيرين سيسألونه، وأرشد إلى طريقة التعامل مع هذا السؤال.
القاعدة الخاطئة والصحيحة
بدايةً، ما منشأ هذا السؤال؟ منشؤه أننا نظن أن القاعدة كالتالي:
لكل شيء مسبب، ولكل موجود خالق.
بينما القاعدة الصحيحة هي:
لكل شيء حادث مسبب، ولكل مخلوق خالق.
حادث يعني له بداية، ووجد بعد أن لم يكن موجودًا، فكل ما له بداية لابد له من مسبب أخرجه من العدم إلى الوجود وأحدثه بعد أن لم يكن.
تسلسل المسببين والموقف العقلي
- ما الذي أنبت النبتة؟ المطر.
- طيب، ما الذي أنزل المطر؟ السحاب.
- وما الذي كوَّن السحاب؟ البخار المتصاعد.
- ومن أين جاء هذا البخار؟ من البحار.
- ومن أوجد البحار؟ الله.
- ومن أوجد الله؟
ليس له موجد، لأنه السبب الأول، أي ليس له مسبب. لماذا؟ لأنك لو افترضت أنه أوجده خالق، فستسأل: ومن أوجد خالق الخالق؟ وهكذا إلى ما لا بداية، وهذا يؤدي إلى تسلسل الأسباب ويسمى أيضًا تسلسل الفاعلين، وهو مستحيل عقلاً، لأن نتيجته أنه لن يحصل خلق أصلاً. كما بينا في الحلقة الماضية وضربنا مثالًا للأسير الذي لا يُطلَق صراحه حتى يتلقى الجندي أمرًا من قائده، والقائد من قائده، وهكذا إلى ما لا بداية، فلا يُحرَّر الأسير. فإذا رأيناه أُطلِق صراحه، علمنا أن السلسلة وقفت عند من أعطى الأمر دون أن يتلقى أمرًا من أحد أعلى منه رتبة.
مثال لاستحالة التسلسل إلى ما لا بداية
مثال آخر يوضح استحالة التسلسل في الأسباب إلى ما لا بداية: إذا دخلت بيتًا ونظرت من باب فيه فرأيت وراءه ثرية معلقة بسلسلة، لكنك لم ترَ من أين تبدأ هذه السلسلة، فإنك تجزم بأن لها بداية في السقف، وإلا لسقطت وما بقيت معلقة، ولن تتقبل فكرة أن السلسلة قد تكون ممتدة إلى ما لا بداية.
تصحيح المفهوم حول السببية
لذلك، فسؤال "من خلق الخالق؟" سؤال خاطئ لأنه يخالف العقل. العقل يقتضي أنه إذا كان الكون مخلوقًا، فلابد من وجود خالق غير مخلوق. هذا سؤال خاطئ، لأنه لابد عقلاً من سبب أول. فعندما تقول "من خالق السبب الأول؟" فإنه لم يعد أولًا بل أصبح سببًا ثانيًا.
إذن، قانون السببية يطبق على الأمور الحادثة فقط. إذا دخلت غرفتك ورأيت سريرك قد تغير مكانه، فإنك تقول: من غير مكان السرير؟ لأن تغير مكانه أمر حادث. بينما إذا دخلت غرفتك ولم ترَ مكان السرير قد تغير، فإنك لا تسأل: من أبقى السرير مكانه؟ لأن بقاءه مكانه ليس أمرًا حادثًا حتى يكون له محدث.
من خبز الخباز
والله تعالى بما أنه السبب الأول، فليس حادثًا حتى يكون له محدث، بل هو خارج عن إطار المادة التي خلقها، وغير محكوم بقوانينها.
إذا رأيت دمية تتحرك بخيوط وعلمت أن هناك من خلف الستار إنسانًا يحركها، فهل من المقبول أن تسأل: ومن يحرك خيوط هذا الإنسان؟
إذا رأيت رغيف خبز وعلمت أنه لابد للخبز من خباز، فهل تسأل: ومن خبز الخباز؟ لا طبعًا، بل هو سؤال مضحك وخاطئ. لماذا؟ لأنه طبق تعميمًا في غير مكانه. وكذلك، فالخلق صفة ملازمة للمخلوقين، فلا تعمم على الخالق.
فسؤال "من خلق الله؟" سؤال خاطئ، مثل سؤال: ما طول الضلع الرابع في المثلث؟ وهو كأنك تقول: من خلق الذي لا خالق له؟ أو من الذي سبق الذي لا شيء قبله؟
الإرشاد النبوي للتعامل مع السؤال
فالجواب: الخالق ليس له خالق، لأنه لو كان له خالق، لكان مخلوقًا لا خالقًا. لذا، فهذا السؤال ليس محرجًا، ولا خافت الشريعة من أن يخطر ببال الناس، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم سلفًا بأنه سيسأل، وأرشدنا إلى التعامل معه.
إلى ماذا أرشدنا؟ في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"يأْتي الشَّيْطانُ أحَدَكُمْ فَيَقُولَ: مَن خَلَقَ كَذا وكَذا؟ حتَّى يَقُولَ له: مَن خَلَقَ رَبَّكَ؟ فإذا بَلَغَ ذلكَ، فَلْيَسْتَعِذْ باللَّهِ ولْيَنْتَهِ."
يعني ينتهي عن الاسترسال والاستمرار مع هذه السلسلة من التساؤلات بعد هذا الحد. هل هذا حجر على العقل؟ وتعطيل للعقل؟ أبداً، بل هو الموقف العقلي الصحيح. لماذا؟ لأن هذا السؤال "من خلق ربك؟" هو كما بينا سؤال يخالف البداهيات العقلية، والبداهيات العقلية هي التي ينطلق منها الإنسان في الاستدلال، لا أنه يطلب لها أدلة عليها حتى يستمر في سلسلة البرهنات والتعليلات.
يعني الذي يسأل هذا السؤال كأن عليه أن يقول: ما الذي أفعله؟ أنا أخالف العلوم الفطرية الضرورية، إذن أقف عن هذا الحد، وإلا فإنني أهدر عقلي. لذلك، في الحديث الآخر، وجّه النبي صلى الله عليه وسلم من يأتيه هذا السؤال إلى أن يقول:
"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴿١﴾ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴿٢﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿٣﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿٤﴾" (سورة الإخلاص)"
يعني أنا آمنت بأن الله ليس حادثًا كالحوادث، لم يولد لتكون له بداية أصلاً، وليس أحد مكافئًا له، فهو تعالى بائن عن خلقه، ليس مخلوقًا مثلهم. إذن، فهذا السؤال غير صحيح أصلاً.
التغلب على الوسواس
لكن السؤال يهجم عليّ وأنا أعلم أنه غير صحيح. تمام! إذاً فهو وسواس. تتعامل معه كما تتعامل مع وسواس الطهارة والوضوء والصلاة. أنت إن كنت مصابًا بالوسواس، فإن الشيطان يحدث لديك شكًا: غسلت يدك أم لم تغسلها؟ نويت الصلاة أم لم تنوِ؟ كبرت تكبيرًا صحيحًا أم لم تكبر؟ مع أنها كلها تكون أمورًا حسية، يقينية، لا تحتاج برهنة ولا استدلال، ومع ذلك فأنت تشك فيها. ما الحل في هذه الحالة؟ هل تلجأ إلى البرهنة والاستدلال؟ لا، بل تستعيذ بالله من الشيطان الذي يوسوس لك، وتنتهي عن التفكير في الشكوك التي يثيرها. وهكذا في حالة سؤال "من خلق الله؟" وقد علمت أنه سؤال يخالف ضرورات العقل.
الرد على الملحد
ختامًا، سؤال "من خلق الله؟" يسأله الملحدون أيضًا اعتراضًا على إيماننا بالله، لأنهم لا يتقبلون فكرة أن يكون الله أزليًا بلا بداية.
قل للملحد الذي يعترض عليك بهذا الاعتراض: هل تؤمن بأن الكون له بداية؟ فإن قال: نعم، فلابد لهذا الكون الحادث من محدث، بالبديهة العقلية الواضحة. وإن قال: لا، بل هو أزلي، فقل له: تعترض على أزلية الله وتقول بأزلية الكون؟
إذن، فأنت لا تعترض على مبدأ الأزلية بحد ذاته، لكنك تعترض على أزلية خالق أوجد الكون بعلم وإرادة وحكمة وقدرة، تظهر آثارها في كل شيء، وتقول بأزلية كون هكذا بلا موجد، كون لا إرادة له، ولا علم، ولا حكمة. ثم ذرهم في "طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ".
والسلام عليكم ورحمة الله. اشتركوا في القناة.